سيرة الأستاذ النورسي مترجمة إلى اللغة العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة تعريفية بالكتاب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله سيدنا محمدٍ المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغُرِّ الميامين، ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين؛ وبعد:

فهذه «سيرة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ» التي كَتَبها طُلابه المقرَّبون، يسرُّنا أن نقدِّمها مترجمةً بالكامل لأول مرةٍ إلى قرَّاء العربية الأكارم، بعد أن مضى على تأليفها ونشرها باللغة التركية أكثر من نصف قرن.

كُتِبَتْ هذه السيرة في أواخر حياة الأستاذ النُّورْسِيّ رحمه الله، وتعاوَنَ على إعدادها ثُلةٌ من طلابه الذين تتلمذوا على يديه، وانضَوَوا في سلك دعوته القرآنية، ولازموه وعرفوا أحوالَه عن قرب، وخاضوا معه مِحَنَ السجن والنفي والأذى، وقاموا على خدمته حتى آخر لحظةٍ من حياته[1]؛ وقد شرعوا في تأليفها في حوالي العام 1944م، لكنهم لم يفرغوا منها إلا في العام 1958م بسبب ظروف السجن والنفي والملاحقة؛ وكان الأستاذ لما علِم بعزمهم على الأمر، وجَّههم إلى الاقتصار على سردِ ما يتعلق بالخدمة الإيمانية من سيرته، وبعد أن أُنجِز العمل اطَّلع عليه اطِّلاعًا إجماليًّا، فأقرَّهم على بعضه، وأمرهم بحذف البعض الآخَر أو تعديله.

وتمتاز هذه السيرة بأنها أجمعُ سيرةٍ كُتِبتْ في حياةِ الأستاذ النُّورْسِيّ، ومِن أقدمِها زمانًا وأقربِها صلةً به، إذْ جمَعَها المُعِدّون من مؤلَّفات الأستاذ ورسائله الشخصية ودفاعاته أولًا، ثم أضافوا عليها السرد التاريخي والوصف الشخصي وما يتعلق بذلك من تفاصيل، فكانت وثيقةً مهمة، وشهادةً دقيقة، ومرجعًا أساسيًّا لا يُستغنى عنه؛ فضلًا عن أنها أُدرِجت في «كليات رسائل النور» بوصفها جزءًا أساسيًّا منها، وحريٌّ بها أن تكون كذلك، فهي بالإضافة إلى سردِها سيرةَ الأستاذ النُّورْسِيّ على تسلسُلِ مراحلها وتنوُّعِ جوانبها، تمثِّل مَدخَلًا مُهمًّا إلى عالَم رسائل النور، إذْ تُقرِّب الكثير من مضامينِها، وتحوي قطوفًا يانعةً من شتى رياضها.

ولو شئنا أن نُعرِّف بهذا الكتاب في هذه العُجالة لما وفَّيناه حقَّه، فهو كتابٌ متعدِّد الجوانب ثريُّ المحتوى، ولئن كان في الأصل كتابَ سيرةٍ يُعرِّف بشخصيةِ النُّورْسِيّ الفذَّةِ حقًّا، ويُطلِعُ القارئَ على ملامحه المتفرِّدة، وسجاياه الرفيعة، ودعوته القرآنية، وتجربته الثرية كما أسلفنا، فإنه في جانبٍ آخر يحكي سيرةَ شخصيةٍ معنويةٍ وجماعةٍ مؤمنةٍ عاشتْ بالإيمان ولأجل الإيمان، وخاض رجالُها جهادًا معنويًّا في سبيل الله، فصَبَروا وصابَروا، وكابدوا صنوفًا من المشاقِّ والأذى، ونشروا نور الإيمان، وتصدَّوا لهجمات الكفر والإلحاد والإضلال في ظروفٍ بالغة الشدة، متسلحين بالشجاعة والحكمة معًا.

ثم إن السياق الزمانيَّ والمكانيَّ الذي تجري فيه أحداثُ هذه السيرة بالغُ الأهمية، وبمراعاته يتجلى لنا جانبٌ آخر منها، فإذا بها قصةُ إنقاذِ الإيمان وخدمة القرآن في بلدٍ احتضنَ آخر حواضِر الخلافة الإسلامية، وشهِد أحد أقسى مشاريع التغريب ومحاربة الدين وطمس الهوية؛ وإذا بها في الوقت نفسه دعوةُ إصلاحٍ وتجديدٍ أصيلةٌ، راسخةُ الجذور بعيدةُ النظر، تنهل من معين الوحي السماوي الخالد، وتتأسى بمنهجِ الأنبياء هُداةِ البشر وبُناةِ الإنسان على مرِّ الزمان.

والكتاب فوق هذا سِفرٌ حافلٌ بالمواقف التربوية الصادقة، والمشاهد الوجدانية المؤثِّرة، وهو أيضًا نافذةٌ تُطلُّ بالقارئ على أحداث مفصليةٍ في تاريخ الأمة القريب، فتوسِّع رؤيتَه، وتصقُل فكرَه، وتُثري معرفتَه؛ ومشكاةُ تزكيةٍ تهذِّب نفسَه وتُنوِّر بصيرتَه.

كتَبَ المُعِدّون سيرةَ الأستاذ النُّورْسِيّ هذه، بعد مُضيِّ ثلث قرنٍ مشحونٍ بالحملات الرسمية المتوالية لتشويه سمعته والنَّيل منه، وصرفِ الناس عن دعوته، وتخويفهم من سلوك نهجه، فجاءت هذه السيرة لِتُعرِّف بالأستاذ ودعوته، وتُبيِّن في جملةِ ما تُبيِّن براءةَ ساحته، ونزاهةَ شخصيته، ونصاعةَ صورته، وسموَّ غايته

ولقد أقرَّ المُعِدُّون بأن هذا الكتاب برغم ضخامة حجمه والجهدِ المبذول فيه، لم يستوفِ جميعَ جوانبِ سيرة الأستاذ، ولا جميعَ تفاصيلِ أحداثها، وهذا أمرٌ مرَدُّه طبيعةُ المحتوى أولًا، والشرطُ الذي التزمه المُعِدّون ثانيًا، لكنه لا يبخسُ الكتابَ قيمتَه ومكانتَه بالتأكيد، فهو وثيقةٌ بالغة الأهمية، ومرجعٌ عمدةٌ في بابه، على أنه يمكن لمن أراد التوسُّعَ الرجوعُ إلى ما أُلِّف لاحقًا بهذا الصدد.

[1]  أبرزُهم اثنان، هما: «زبير كوندوز ألب»، و«مصطفى صونغور»، اللذان اقتبسا نصوصها، وصاغا محتواها، ورتَّبا موادَّها، وكان للآخرين جهودٌ  إضافيةٌ متمِّمة.

4483 مرة

نفس المواد


Bir cevap yazın

E-posta hesabınız yayımlanmayacak.