ماذا كان سيحصُل لو انتصرنا في الحرب العالمية؟

خطابٌ في الرؤيا

في شهر أيلول من عام 1335 رومي([1])، كنتُ في حالةٍ من الاضطراب الشديد الناجمِ عن اليأس الذي خلَّفتْه حوادثُ الدهر، وكنت أبحث عن نورٍ في غياهب تلك الظُّلمة، فلم أستطع أن أجدَه في اليقظة التي هي حُلُمٌ معنًى، وإنما وجدتُ ضياءً في رؤيا صادقةٍ هي يقظةٌ في الحقيقة، وسأُوْرِدُ النقاطَ التي جرَتْ على لساني وأُعرِض عن ذِكر التفاصيل، وهي كالآتي:

في إحدى ليالي الجُمَع دخلتُ بالنوم إلى عالَم المثال، أتاني آتٍ فقال لي: يدعوك مجلسٌ موقَّـرٌ مَهيبٌ منعقدٌ لبحثِ حالِ عالَم الإسلام ومصيره.

ذهبتُ، فرأيت مجلسًا منوَّرًا لم أرَ مثلَه في الدنيا، قد حضرَه ممثلون عن السلف الصالح وعن كلِّ عصرٍ من العصور، فوقفتُ عند الباب متهيِّبًا، فناداني أحدهم قائلًا:

يا رجلَ زمانِ المصائب والنوائب.. أنت أيضًا لك رأي، فبَيِّن ما عندَك.

قلتُ وأنا واقف: سَلُوني أُجِبْ.

قال أحدُهم: إلامَ سَتُفضي هذه الهزيمة؟([2]) وماذا كان سيحصُل لو كان الانتصار؟

قلت: إن المصيبةَ ليست شرًّا محضًا؛ فمثلما تنطوي السعادة على مصيبةٍ في بعض الأحيان، كذلك قد تنشأ السعادة عن المصيبة.

وإن هذه الدولة الإسلامية التي نهضتْ منذ القديم بفرض الجهاد الكفائي، إعلاءً لكلمة الله، وحفاظًا على استقلالِ العالَم الإسلامي، وحملتْ راية الخلافة، وبذلت التضحيات لأجل العالَم الإسلامي ذي الجسد الواحد، ستُعوَّضُ بدلًا من المصيبة التي حلَّتْ بها سعادةً يَرْفُلُ بها عالَم الإسلام في المستقبل؛ ذلك أن هذه المصيبة قد حرَّكتْ مشاعر الأُخوَّة الإسلامية التي هي روحُ حياتنا وإكسيرُها، وعجَّلَتْ ببعثِها بشكلٍ لم يسبق له مثيل، إذْ بينما كنا نتألم كان العالم الإسلامي يبكي، ولو زادتْ أوروبا في إيلامها لضَجَّ العالم الإسلامي؛ فلئن مُتنا فسنموت عشرين لكنْ سنُبعَثُ ثلاثمئة([3])، فنحن في عصر الخوارق، وفيه مَن بُعِث بعد الموت بسنتين أو ثلاث.

لقد خسِرنا بهزيمتنا سعادةً عاجلةً مؤقتةً، لكنْ تنتظرنا سعادةٌ آجلةٌ دائمة، وإن مَن يستبدِل بالحال الجزئية المتحوِّلة المحدودة مستقبَلًا رحبًا فسيحًا رابح.

وإذا بصوتٍ من طرف المجلس يقول: أوضِح.

قلت: إن الحروب قد تحولت من حروبٍ بين الدول والأقوام إلى حروبٍ بين طبقات البشر، فكما يرفض الإنسان أن يكون أسيرًا، يرفض كذلك أن يكون أجيرًا.

ولعلنا لو كنا منتصرين لانجرفنا أشدَّ الانجراف في تيار الاستبداد الموجود لدى خصومنا وأعدائنا، والحال أنه تيارٌ ظالمٌ ينافي طبيعةَ العالم الإسلامي، ويخالف مصلحةَ الأكثرية المطلقة من أهل الإيمان، فضلًا عن أن عمره قصير ومآله التمزق، فلو كنا آخذين به لَسُقنا العالَم الإسلامي إلى طريقٍ ينافي طبيعتَه وفطرتَه؛ ولكُنَّا مُلزَمين بأن نحميَ في أرجاء آسيا تلك المدنيَّةَ الخبيثةَ التي لم نجد منها سوى الضرر، والتي تغلِب سيئاتُها حسناتِها، وترفُضُها الشريعة، وتُفتي فيها مصلحةُ البشر بالنسخ، وتحكم عليها صحوتُهم بالانقراض.. إنها مدنيةٌ بدائيَّةٌ في معناها، متوحِّشةٌ جائرةٌ، تعجُّ بالرذائل.

سعيد النُّورْسِيّ

([1]) يوافق العامَ 1337 هـ، 1919 م؛ هـ ت.

([2]) المقصود هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالَمية الأولى؛ هـ ت.

([3]) يقصد تعداد المسلمين في الدولة العثمانية مع تعدادهم في سائر أنحاء العالَم الإسلامي؛ هـ ت.

2043 مرة

نفس المواد


Bir cevap yazın

E-posta hesabınız yayımlanmayacak.