رسالة رمضان – النكتة الثامنة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿شهْرُ رَمضَانَ الَّذى أُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للِنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: 185)

……………………….

* النكتة الثامنة: إن حكمة من الحكم الكثيرة لصيام رمضان المبارك المتعلقة بالحياة الشخصية للإنسان تتلخص بما يأتي:

إن في الصوم نوعًا من أنواع العلاج الناجع للإنسان وهو (الحِمية) سواء المادية منها أو المعنوية، فالحِمية ثابتة طبًا. إذ إن الإنسان كلما سلكت نفسُه سلوكًا طليقًا في الأكل والشرب سبّب له أضرارًا مادية في حياته الشخصية. وكذلك الحال في حياته المعنوية، إذ إنه كلما إلتهم ما يصادفه دون النظر إلى ما يحل له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت، حتى يصل به الأمر أن تستعصي نفسُه على طاعة القلب والروح فلا تخضع لهما. فتأخذ زمامَها بيدها وهي طائشة حرة طليقة، وتسوق الإنسان إلى شهواتها دون أن تكون تحت سيطرة الإنسان وتسخيره.

أما في رمضان المبارك فإن النفس تعتاد على نوع من الحِمية بوساطة الصوم وتسعى بجدٍّ في سبيل التزكية والترويض وتتعلم طاعة الأوامر، فلا تصاب بأمراض ناشئة من امتلاء المعدة المسكينة وإدخال الطعام على الطعام. وتكسب قابلية الإصغاء إلى الأوامر الواردة من العقل والشريعة. وتتحاشى الوقوع في الحرام بما أخذت من أمر التخلي عن الحلال. وتجدّ في عدم الإخلال بالحياة المعنوية وتكدير صفوها.

ثم أن الأكثرية المطلقة من البشرية يُبتلَون بالجوع في أغلب الأحيان. فهم بحاجة إلى ترويض، وذلك بالجوع الذي يعوّد الإنسان على الصبر والتحمل. وصيام رمضان هو ترويض وتعويد وصبر على الجوع يدوم خمس عشرة ساعة أو أربعًا وعشرين ساعة لمن فاته السحور. فالصوم إذن علاج ناجع لهلع الإنسان وقلة صبره، وعدم تحمله الأمور اللذين يضاعفان من مصيبة الإنسان وبلاياه.

والمعدة كذلك هي نفسها بمثابة معمل لها عمال وخَدَمَة كثيرون، وهناك في الإنسان أجهزة ذات علاقات وارتباطات معها، فإن لم تعطَّل النفسُ مشاغلَها وقت النهار مؤقتًا لشهر معين ولم تدعها، فإنها تُنسي أولئك العمال والخَدَمَة عباداتهم الخاصة بهم، وتُلهيهم جميعًا بذاتها، وتجعلهم تحت سيطرتها وتحكّمها، فتشوش الأمر على تلك الأجهزة والحواس وتنغّص عليها بضجيج دواليب ذلك المصنع المعنوي وبدخانه الكثيف، فتصرف أنظار الجميع إليها وتنسيهم وظائفهم السامية مؤقتًا. ومن هنا كان كثير من الأولياء الصالحين يعكفون على ترويض أنفسهم على قليل من الأكل والشرب، ليرقوا في سلّم الكمال.

ولكن بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يُخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده، بل تتلذذ أيضًا تلك الأجهزة والحواس بلذائذ سامية وتتمتع تمتعًا ملائكيًا وروحانيًا في رمضان المبارك ويركزون أنظارهم إليها بدلًا من اللهو الهابط لذلك المصنع. لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الأنوار والفيوضات والمسرات المعنوية -كلٌّ حسب درجته ومنزلته- فهناك ترقيات كثيرة وفيوضات جمة للقلب والروح والعقل والسر وأمثالها من اللطائف الإنسانية في ذلك الشهر المبارك. وعلى الرغم من بكاء المعدة ونحيبها فإن تلك اللطائف يضحكن ببراءة ولطف.

من المكتوب التاسع والعشرون

بديع الزمان سعيد النورسي

2559 مرة

نفس المواد


Bir cevap yazın

E-posta hesabınız yayımlanmayacak.