ما هذه الطبيعة التي زلَّ فيها أهلُ الضلالة والغفلة، حتى سقطوا في الكفر والكفران، فرُدُّوا إلى أسفل سافلين بعد أن كانوا في أحسن تقويم؟
الجواب: إن ما يسمُّونه بـ«الطبيعة» هو الشريعة الفطرية الإلٓهيّة الكبرى، وهي عبارة عن مجموعة قوانين عاداتِ الله المُظهِرة لتنظيم الأفعال الإلٓهيّة وأنظِمَتها التي تُشاهَد في الموجودات.. ومن المعلوم أن القوانين أمور اعتبارية لها وجود علميّ، وليس لها وجود خارجي؛ إلّا أنَّ الغفلة والضلالة أدَّت بهم إلى الجهل بالكاتب والنقَّاش الأزلي، فظنُّوا الكتابَ والكتابة كاتبًا، والنَّقشَ نَقّاشًا، والقانونَ قُدرةً، والمِسطَر مصدرًا، والنِّظامَ نَظّامًا، والصَّنعةَ صانعًا!
فكما أن إنسانًا بدائيًّا لم يشاهد حياة البشر الاجتماعية من قبل، إذا دخل ثكنةً عسكرية عظيمة، وشاهد حركات الجيش المُطَّردة وفقَ أنظمةٍ معنوية، خُيِّل إليه أنهم مربوطون بحبال مادية.. أو دخل ذلك الرجل البدائيُّ مسجدًا كبيرًا، ورأى حركات المسلمين المباركة المُنتَظِمة في صلوات الجماعة والعيد، توهَّم أنهم مربوطون بروابط مادية.
كذلك أهل الضلالة الذين هم أكثر توحُّشًا من ذلك البدائيّ، حينما يدخلون هذا الكون الذي هو ثكنة عسكرية عظيمة لسلطان الأزل والأبد، ومن له جنود السماوات والأرض، ويدخلون هذا العالم الذي هو مسجد كبير للمعبود الأزلي، ثمَّ يُطلقون على أنظمة ذلك السلطان اسمَ الطبيعة، ويتخيَّلون شريعته الكبرى المشحونة بحكمٍ غيرِ متناهية مجرَّدَ مظاهرَ صمّاءَ عمياء جامدة ومختلطة، كأمثال القوة والمادة؛ فلا شكَّ أنَّ أمثال هؤلاء لا يَصدُق عليهم أنهم بشرٌ، بل حتى لا يَصلُح أن يُقال عنهم: حيوانات وحشيّة.
لأن توهُّمَ هذه الطبيعة يوجِبُ أن تُمنَح كلُّ ذرّةٍ وكلُّ سببٍ قوّةً قادرةً على خلق الموجودات كلها، وعلمًا محيطًا بكلِّ شيء، بل أن تُمنَح كلُّ ذرّة وكلُّ سبب جميعَ صفاتِ الواجب الوجود، وما ذاك إلّا مُحالٌ في منتهى الضلالة، بل هذَيانٌ نابع من جنون الضلالة.
فـ«الكلمات» ورسائل أخرى قد أَرْدَت مفهومَ الطبيعة قتيلًا في مئةِ موضع منها، بحيث لم تَعُد تقوم له قائمة، وكذا «الكلمة الثانية والعشرون» أثبتت هذا الأمر إثباتًا قاطعًا.
الحاصل: لقد أُثبِت في «الكلمات» إثباتًا قاطعًا: أنَّ من كان معتقِدًا بالطبيعة مضطرٌّ لقبول آلهة غير متناهية، لإنكاره الإلٓهَ الواحد، ولزومِ اتِّحادِ جميع تلك الآلهة، وذلك لينتظم أمرُ الكون! إضافة إلى لزوم كون كلِّ إلٓه منها قادرًا على كلِّ شيء، وضدَّ جميع الآلهة ونِدًّا لها.. والحال أنه لا موضع للشريك يتدخَّلُ فيه ولو بمقدار جناح ذُبابة، وابتدءًا من جناح الذباب حتى المنظومة الشمسية.
والدستور القطعي ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء:٢٢]. يحطم أساسات الشرك والاشتراك ببراهين دامغة.
بديع الزمان سعيد النورسي – ملحق بارلا