إنَّ شَمْسَنا تُصبِحُ كالذَّرّةِ إزاءَ تَصَرُّفِ قُدرةِ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ وسَعةِ تَأْثيرِها.
إنَّ مَساحةَ تَصَرُّفِه العَظِيمِ في النَّوعِ الواحِدِ واسِعةٌ جِدًّا.
خُذِ القُوّةَ الجاذِبةَ بينَ ذَرَّتَينِ، ثمَّ ضَعْها قُربَ القُوّةِ الجاذِبةِ المَوجُودةِ في شَمسِ الشُّمُوسِ وفي دَرْبِ التَّـبّانةِ… واجْلِبِ المَلَكَ الَّذي يَحمِلُ حَبّةَ البَرَدِ معَ المَلَكِ الشَّبِيهِ بالشَّمسِ الَّذي يَحمِلُ الشَّمسَ.. وضَعْ أَصغَرَ سَمَكةٍ ــ صِغَرَ الإبرةِ ــ جَنْبَ الحُوتِ العَظِيمِ، وبعدَ ذلك تَصَوَّرِ التَّجَلِّيَ الواسِعَ للقَدِيرِ ذِي الجَلالِ وإتقانَه الكامِلَ في أَصغَرِ شَيءٍ وفي أَكبَرِه.. عِندَها تَعلَمْ أنَّ الجاذِبيّةَ والنَّوامِيسَ كُلَّها إن هي إلَّا وَسائِلُ سَيّالةٌ وأَوامِرُ عُرفيّةٌ، ولَيسَت إلَّا أَسماءً وعَناوِينَ لِتَجَلِّي القُدرةِ وتَصَرُّفِ الحِكْمةِ.. فهذا هو التَّفسِيرُ لا غَيرُ.
فَكِّرْ في هذه الأُمُورِ معًا، تَجِدْ بالضَّرُورةِ أنَّ الأَسبابَ الحَقِيقيّةَ والوَسائِطَ المُعِينةَ، وكذا الشُّرَكاءَ، ما هي إلَّا أُمُورٌ باطِلةٌ وخَيالٌ مُحالٌ في نَظَرِ تلك القُدرةِ الجَلِيلةِ.
إنَّ الحَياةَ كَمالُ الوُجُودِ. ولِجَلالةِ مَقامِها أَقُولُ: لِمَ لا تكُونُ كُرَتُنا وعالَمُنا مُسَخَّرًا مُطِيعًا كالحَيَوانِ؟
فلِلَّهِ سُبحانَه كَثِيرٌ مِن أَمثالِ هذه الحَيَواناتِ الطّائِرةِ مُنتَشِرةٌ في الفَضاءِ الواسِعِ تَنشُرُ البَهاءَ والجَمالَ والعَظَمةَ والهَيبةَ. إنَّه سُبحانَه يُدِيرُها ويُسَيِّـرُها في بُستانِ خَلْقِه.
فالنَّغَماتُ الَّتي تَبعَثُها تلك الكائِناتُ والحَرَكاتُ الَّتي تَقُومُ بها هذه الطُّيُورُ.. تلك الأَقوالُ والأَحوالُ تَسبِيحاتٌ وعِباداتٌ للقَدِيمِ الَّذي لم يَزَلْ، ولِلحَكِيمِ الَّذي لا يَزالُ.
إنَّ كُرَتَنا الأَرضِيّةَ كَثِيرةُ الشَّبَهِ بالحَيَوانِ، إذ إنَّها تُبرِزُ آثارَ الحَياةِ، فلو صَغُرَت كبَيضةٍ صَغِيرةٍ ــ بفَرضٍ مُحالٍ ــ لَتَحوَّلَت إلى حَيَوانٍ لَطِيفٍ.. ولو كَبِرَ حَيَوانٌ مِجْهَرِيٌّ كُرَوِيٌّ وأَصبَحَ كالكُرةِ الأَرضِيّةِ، لَصارَ شَبِيهًا بها.. فلو صَغُرَ عالَمُنا صِغَرَ الإنسانِ وانقَلَبَت نُجُومُه إلى ما يُشبِهُ الذَّرّاتِ، رُبَّما يكُونُ حَيَوانًا ذا شُعُورٍ. والعَقلُ يَجِدُ مَجالًا في هذا الِاحتِمالِ.
فالعالَمُ إذًا عابِدٌ مُسَبِّحٌ بأَركانِه، كلُّ رُكنٍ مُسَخَّرٌ مُطِيعٌ للخالِقِ القَدِيرِ القَدِيمِ.
فلَيس مِنَ الضَّرُورِيِّ أن يكُونَ الكَبِيرُ كَمًّا كَبِيرًا نَوْعًا، بلِ السّاعةُ الصَّغِيرةُ صِغَرَ الخَرْدَلِ أَبدَعُ صَنْعةً وأَعظَمُ جَزالةً مِن كَبِيرَتِها الَّتي هي بِكِبَرِ «آياصُوفْيا»..
فخَلْقُ الذُّبابةِ أَعجَبُ مِن خَلْقِ الفِيلِ.
لو كُتِبَ قُرآنٌ بقَلَمِ القُدرةِ بالجَواهِرِ الفَرْدةِ للأَثيرِ على جُزءٍ فَردٍ، فإنَّ دِقّةَ صَفَحاتِه تُعادِلُ في صَنْعةِ الإتقانِ القُرآنَ الكَرِيمَ المَكتُوبَ بمِدادِ النُّجُومِ في صَحِيفةِ السَّماءِ. فهُما سِيّانِ في الجَزالةِ والإبداعِ.
فالصَّنْعةُ الباهِرةُ بالجَمالِ والكَمالِ للمُصَوِّرِ الأَزَليِّ مَبثُوثةٌ هكذا في كلِّ جِهةٍ، والِاتِّحادُ الكامِلُ الأَتَمُّ في كَمالِها يُعلِنُ التَّوحِيدَ.
خُذْ هذا الكَلامَ البَيِّنَ بعَينِ الِاعتِبارِ.
1812 مرة