بُرهانانِ عَظيمانِ للتَّوحيدِ ونُكتةٌ إعجازِيّةٌ لِسُورةِ الإخلاصِ

بُرهانانِ عَظيمانِ للتَّوحيدِ

ونُكتةٌ إعجازِيّةٌ لِسُورةِ الإخلاصِ

هذا الكَونُ بذاتِه بُرهانٌ عَظِيمٌ.

إذ لِسانُ الغَيبِ ولِسانُ الشَّهادةِ يُسَبِّحانِ بالتَّوحِيدِ، تَوحِيدِ الرَّحمَنِ، ويَذكُرانِ بصَوتٍ هائِلٍ: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

فكُلُّ ذَرّاتِ الكَونِ، وحُجَيراتِه، وأَركانِه، وأَعضائِه، لِسانُ ذاكِرٍ يَلهَجُ معَ ذلك الصَّوتِ الدّاوِي بـ:«لا إلٓهَ إلَّا هو».

في تلك الأَلسِنةِ تَنَوُّعٌ، وفي تلك الأَصواتِ مَراتِبُ، إلَّا أنَّها تَنطَلِقُ معًا بـ:«لا إلٓهَ إلَّا هو».

هذا الكَونُ إنسانٌ أَكبَرُ.. يَذكُرُ رَبَّه بصَوتٍ عالٍ، والأَصواتُ الرَّقيقةُ لِأَجزائِه وذَرّاتِه كُلُّها تُدَوِّي معَ ذلك الصَّوتِ الهادِرِ: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

نعم، إنَّ هذا العالَمَ يَتلُو آياتِ القُرآنِ في حَلْقةِ ذِكرٍ عَظِيمةٍ، وهذا القُرآنُ المُشرِقُ المُنَوَّرُ يَتَرنَّمُ معَ ذَوِي الأَرواحِ كُلِّها بـ:«لا إلٓهَ إلَّا هو».

هذا الفُرقانُ الحَكِيمُ بُرهانٌ ناطِقٌ لذلك التَّوحِيدِ.. آياتُه كلُّها أَلسِنةٌ صادِقةٌ، وأَشِعّةٌ ساطِعةٌ بالإيمانِ.. فالجَميعُ يَذكُرُ معًا: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

فإذا ما أَلصَقْتَ الأُذُنَ بصَدْرِ هذا الفُرقانِ، ستَسمَعُ مِن أَعمَقِ الأَعماقِ صَدًى سَماوِيًّا صَرِيحًا يَنبَعِثُ: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

فذلك الصَّوتُ اللَّطِيفُ، صَوتٌ رَفيعٌ عالٍ، في مُنتَهَى الجِدِّيّةِ وغايةِ الإيناسِ، ونِهايةِ الصِّدقِ والإخلاصِ؛ ومُدَعَّمٌ بالبُرهانِ القاطِعِ المُقنِعِ.. يقُولُ مُكَرِّرًا: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

هذا البُرهانُ المُنَوَّرُ، جِهاتُه السِّتُّ شَفّافةٌ رائقةٌ.. إذ:

علَيه نَقشُ الإعجازِ الزّاهِر.

وبداخِلِه يَلمَعُ نُورُ الهِدايةِ، ويقُولُ: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

تَحتَه نَسِيجُ البُرهانِ والمَنطِق… في يَمينِه استِنطاقُ العَقلِ، ويُصَدِّقُه بـ: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

وفي شِمالِه ــ الَّذي هو يَمينٌ ــ استِشهادُ الوِجدانِ… أَمامَه الحُسْنُ والخَيرُ… وهَدَفُه السَّعادةُ… مِفتاحُه دائمًا: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

ومِن وَرائِه الَّذي هو أَمامٌ ــ أي: استِنادُه ــ سَماوِيٌّ وهو: الوَحْيُ المَحْضُ.. فهذه الجِهاتُ السِّتُّ مُنِيرةٌ مُضِيئةٌ، يَتَجلَّى في بُرُوجِها: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

فأَنَّى للوَهْمِ أن يَستَرِقَ مِنها السَّمْعَ، وأَنَّى للشُّبهةِ أن تَطرُقَ بابَها.

أفَيُمكِنُ أن يَدخُلَ ذلك المارِقُ هذا الصَّرْحَ البارِقَ الشّارِقَ!!

فأَسوارُ سُوَرِه شاهِقةٌ، وكلُّ كَلِمةٍ مِنه مَلَكٌ ناطِقٌ بـ: «لا إلٓهَ إلَّا هو».

فذلك القُرآنُ العَظِيمُ بَحرٌ ناطِقٌ للتَّوحِيدِ.

لِنَأْخُذ قَطْرةً مِنه مِثالًا: «سُورةُ الإخلاصِ». نَتَناوَلُها رَمْزًا قَصِيرًا مِمّا لا يُعَدُّ مِنَ الرُّمُوزِ.

إنَّها تَرُدُّ الشِّرْكَ بجَميعِ أَنواعِه رَدًّا قاطِعًا، وتُثبِتُ سَبعةَ أَنواعٍ مِنَ التَّوحِيدِ في جُمَلِها السِّتِّ: ثلاثُ جُمَلٍ مِنها مُثبَتةٌ، وثلاثٌ مِنها مَنفِيّةٌ.

الجُملةُ الأُولَى: ﴿قُلْ هُوَ﴾: إشارةٌ بلا قَرِينةٍ، أي: هو تَعيِينٌ بالإطلاقِ، ففي ذلك التَّعيِينِ تَعَيُّنٌ. أي: لا هو إلَّا هو.

وهذا إشارةٌ إلى تَوحِيدِ الشُّهُودِ. فلَوِ استَغرَقَتِ البَصِيرةُ النّافِذةُ إلى الحَقِّ في التَّوحِيدِ، لَقالَت: «لا مَشهُودَ إلَّا هو».

الجُملةُ الثّانية: ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تَصرِيحٌ بتَوحِيدِ الأُلُوهيّةِ، إذِ الحَقيقةُ تقُولُ بلِسانِ الحَقِّ: «لا مَعبُودَ إلَّا هو».

الجُملةُ الثّالثة: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ صَدَفٌ لِدُرَّينِ مِن دُرَرِ التَّوحِيدِ:

الأَوَّلُ: تَوحِيدُ الرُّبُوبيّةِ: فلِسانُ نِظامِ الكَونِ يقُولُ: «لا خالِقَ إلَّا هو».

الثّاني: تَوحِيدُ القَيُّومِيّةِ: أي: إنَّ لِسانَ الحاجةِ إلى مُؤَثِّرٍ حَقيقيٍّ في الكَونِ كُلِّه وُجُودًا وبَقاءً يقُولُ: «لا قَـيُّومَ إلَّا هو».

الجُملةُ الرّابِعةُ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ يَستَتِرُ فيها تَوحِيدُ الجَلالِ، ويَرُدُّ أَنواعَ الشِّركِ، ويَقطَعُ دابِرَ الكُفرِ: لأنَّ الَّذي يَتَغيَّـرُ ويَتَناسَلُ ويَتَجزَّأُ لا شَكَّ أنَّه ليس بخالِقٍ ولا قَـيُّومٍ ولا إلٓهٍ.

و﴿لَمْ يَلِدْ﴾: يَرُدُّ مَفهُومَ البُنُوّةِ والتَّوَلُّدِ، إذ يَقطَعُ قَطعًا شِرْكَ بُنُوّةِ عِيسَى وعُزَيرٍ ــ عليهما السلام ــ والمَلائكةِ أوِ العُقُول. فلَقد ضَلَّ كَثيرٌ مِنَ النّاسِ، وهَوَوْا في غَياهِبِ الضَّلالِ مِن هذا الشِّركِ.

خامِسَتُها: ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ تَوحِيدٌ سَرمَدِيٌّ يُشِيرُ إلى إثباتِ الأَحَدِيّةِ. فمَن لم يكُن واجِبًا قَدِيمًا أَزَليًّا لا يكُونُ إلٓهًا، أي: إن كانَ حادِثًا زَمانِيًّا، أو مُتَولِّدًا مادّةً، أو مُنفَصِلًا عن أَصلٍ، لا يُمكِنُ أن يكُونَ إلٓهًا لِهذا الكَونِ. هذه الجُملةُ تَرُدُّ شِركَ عِبادةِ الأَسبابِ، وعِبادةِ النُّجُومِ، وعِبادةِ الأَصنامِ، وعِبادةِ الطَّبِيعةِ.

سادِسَتُها: ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾ تَوحِيدٌ جامِعٌ، أي: لا نَظِيرَ له في ذاتِه، ولا شَرِيكَ له في أَفعالِه، ولا شَبِيهَ له في صِفاتِه.. كلُّ ذلك مُندَمِجٌ معًا يُوَجِّهُ النَّظَرَ إلى «لَمْ».

فهذه الجُمَلُ السِّتُّ مُتَضمِّنةٌ سَبعَ مَراتِبَ مِن مَراتِبِ التَّوحِيدِ، كلٌّ مِنها نَتِيجةٌ للأُخرَى، وبُرهانٌ لها في الوَقتِ نَفسِه. أي: إنَّ «سُورةَ الإخلاصِ» تَشتَمِلُ على ثَلاثين سُورةً مِن سُوَرِ الإخلاصِ، سُوَرٍ مُنتَظِمةٍ مُرَكَّبةٍ مِن دَلائلَ يُثبِتُ بَعضُها بعضًا..

لا يَعلَمُ الغَيبَ إلّا اللهُ.

 

1972 مرة

نفس المواد


Bir cevap yazın

E-posta hesabınız yayımlanmayacak.