كلُّ الآلامِ في الضَّلالةِ، وكلُّ اللَّذائذِ في الإيمانِ
(حَقِيقةٌ كُبرَى تَزَيَّت بزِيِّ الخَيالِ)
أيُّها الصَّدِيقُ الفَطِنُ، إن شِئتَ أيُّها العَزِيزُ أن تَرَى الفَرْقَ الواضِحَ بينَ «الصِّراطِ المُستَقِيمِ» ذلك المَسْلَكِ المُنَوَّرِ «وطَرِيقِ المَغضُوبِ علَيهِم والضّالِّين» ذلك الطَّرِيقِ المُظلِمِ: تَناوَلْ إذًا يا أَخِي وهْمَك وارْكَبْ مَتنَ الخَيالِ.. سنَذْهَبُ سَوِيّةً إلى ظُلُماتِ العَدَمِ، تلك المَقبَرةِ الكُبرَى المَلِيئةِ بالأَمواتِ.. إنَّ القَدِيرَ الجَلِيلَ قد أَخرَجَنا مِن تلك الظُّلُماتِ بِيَدِ قُدرَتِه، وأَرْكَبَنا هذا الوُجُودَ، وأَتَى بنا إلى هذه الدُّنيا الخاليةِ مِنَ اللَّذّةِ الحَقّةِ.
فها نحنُ قد أَتَينا إلى هذا العالَمِ، عالَمِ الوُجُودِ ــ هذه الصَّحراءِ الواسِعةِ ــ وأَعيُنُنا قد فُتِحَت فنَظَرْنا إلى الجِهاتِ السِّتِّ، فأَوَّلًا صَوَّبْنا نَظَرَنا مُستَعطِفِين إلى الأَمامِ، وإذا البلايا والآلامُ تُرِيدُ الِانقِضاضَ علَينا كالأَعداءِ.. ففَزِعْنا مِنها، وتَراجَعْنا عنها.
ثمَّ نَظَرْنا إلى اليَمِينِ والى الشِّمالِ مُستَرحِمِين العَناصِرَ والطَّبائِعَ، فرَأَيناها قاسِيةَ القُلُوبِ لا رَحْمةَ فيها، وقد كَشَّرَت عن أَسنانِها تَنظُرُ إلَينا بنَظَراتٍ شَزِرةٍ، لا تَسمَعُ دُعاءً ولا تَلِينُ بكَثرةِ التَّوَسُّلِ؛ فرَفَعنا أَبصارَنا مُضطَرِّين إلى الأَعلَى مُستَمِدِّين العَوْنَ مِنَ الأَجرامِ، ولكن رَأَيناها مُرعِبةً مَهِيبةً، تُهَدِّدُنا، إذ إنَّها كالقَذائِفِ المُنطَلِقةِ تَسِيرُ بسُرعةٍ فائِقةٍ تَجُوبُ بها أَنحاءَ الفَضاءِ، مِن دُونِ اصطِدامٍ، يا تُرَى لو أَخْطَأَتْ سَيْرَها وضَلَّت، إذًا لَانْفَلَق كَبِدُ العالَمِ ــ عالَمِ الشَّهادةِ ــ والعِياذُ باللهِ!
ألَيس أَمرُه مَوكُولًا إلى المُصادَفةِ، هل يَأْتِي مِنها خَيرٌ؟! فصَرَفْنا أَنظارَنا عن هذه الجِهةِ يائِسِين، ووَقَعْنا في حَيْرةٍ أَليمةٍ، وخَفَضْنا رُؤُوسَنا وفي صُدُورِنا استَتَرْنا، نَنظُرُ إلى نُفُوسِنا ونُطالِعُ ما فيها.. فإذا بنا نَسمَعُ أُلُوفَ صَيْحاتِ الحاجاتِ وأُلُوفَ أنّاتِ الفاقاتِ، تَنطَلِقُ كُلُّها مِن نُفُوسِنا الضَّعِيفةِ، فنَستَوحِشُ مِنها في الوَقتِ الَّذي نَنتَظِرُ مِنها السُّلوانَ، لا جَدْوَى إذًا مِن هذه الجِهةِ كذلك.. لَجَأْنا إلى وِجْدانِنا، نَبحَثُ عن دَواءٍ، ولكِن وا أَسَفاهُ لا دَواءَ، بل علَينا وَقْعُ العِلاجِ، إذ تَجِيشُ فيه أُلُوفُ الآمالِ والرَّغَباتِ وأُلُوفُ المَشاعِرِ والنَّزَعاتِ، المُمتَدّةِ إلى أَطرافِ الكَونِ.. تَراجَعْنا مَذعُورِين.. نحنُ عاجِزُون عن إغاثَتِها، فلَقد تَزاحَمَتِ الآمالُ بينَ الوُجُودِ والعَدَمِ في الإنسانِ حتَّى امتَدَّت أَطرافُها مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبَدِ، بل لوِ ابتَلَعَتِ الدُّنيا كلَّها لَمَا شَبِعَت.
وهكَذا، أَينَما وَلَّينا وُجُوهَنا، قابَلَنا البَلاءُ.. هذا هو طَرِيقُ «الضّالِّين والمَغضُوبِ علَيهِم»، لأنَّ النَّظَرَ مُصَوَّبٌ إلى المُصادَفةِ والضَّلالِ.
وحيثُ إنَّنا قَلَّدْنا ذلك المِنظارَ، وَقَعْنا في هذه الحالِ، ونَسِينا مُؤَقَّـتًا الصّانِعَ والحَشْرَ والمَبْدَأَ والمَعادَ.. إنَّها أَشَدُّ إيلامًا للرُّوحِ مِن جَهَنَّمَ وأَشَدُّ إحراقًا مِنها.. فما جَنَينا مِن تلك الجِهاتِ السِّتِّ إلَّا حالةً مُرَكَّبةً مِن خَوْفٍ واندِهاشٍ وعَجْزٍ وارتِعاشٍ وقَلَقٍ واستِيحاشٍ معَ يُتْمٍ ويَأْسٍ.. تلك الَّتي تَعصِرُ الوِجْدانَ..
فلْنُحاوِْل دَفْعَها ولْنُجابِهْها..
فنَبدَأُ مُقدَّمًا بالنَّظَرِ إلى قُدرَتِنا.. فوا أَسَفاه! إنَّها عاجِزةٌ ضَعِيفةٌ.
ثمَّ نَتَوجَّهُ إلى تَطمِينِ حاجاتِ النَّفسِ العَطْشَى، تَصرُخُ دُونَ انقِطاعٍ، ولكن ما مِن مُجِيبٍ ولا مِن مُغِيثٍ لإسعافِ تلك الآمالِ الَّتي تَستَغِيثُ!
فظَنَنّا كلَّ ما حَوْلَنا أَعداءً.. كلُّ شَيءٍ غَرِيبٌ! فلا نَستَأْنِسُ بشَيءٍ، ولا شَيءَ يَبْعَثُ الِاطمِئنانَ.. فلا مُتعةَ ولا لَذّةَ حَقِيقيّةً.
ومِن بعدِ ذلك كُلَّما نَظَرْنا إلى الأَجرامِ، امتَلَأَ الوِجدانُ خَوْفًا وهَلَعًا ووَحْشةً، وامتَلَأَتِ العُقُولُ أَوهامًا ورَيْبًا.
فيا أَخِي، هذه هي طَرِيقُ الضَّلالِ، وتلك ماهِيَّـتُها.. فلَقد رَأَينا فيها ظَلامَ الكُفرِ الدّامِسِ.
هيّا الآنَ يا أَخِي، لِنَرجِعْ إلى العَدَمِ، ثمَّ لْنَعُدْ مِنه، فطَرِيقُنا هذه المَرّةَ في «الصِّراطِ المُستَقِيمِ»، ودَلِيلُنا العِنايةُ الإلٓهِيّةُ، وإِمامُنا القُرآنُ الكَرِيمُ.
نعم، لَمّا أَرادَنا المَولَى الكَرِيمُ، أَخرَجَتْنا قُدرَتُه مِنَ العَدَمِ، رَحْمةً مِنه وفَضْلًا؛ وأَركَبَنا قانُونُ المَشِيئةِ الإلٓهِيّة وسَيَّرنا على الأَطْوارِ والأَدْوارِ.. ها قد أَتَى بنا، وخَلَع علَينا خِلْعةَ الوُجُودِ وهو الرَّؤُوفُ، وأَكرَمَنا مَنزِلةَ الأَمانةِ، شارَتُها الصَّلاةُ والدُّعاءُ.
كلُّ دَوْرٍ وطَوْرٍ مَنزِلٌ مِن مَنازِلِ الضَّعْفِ في طَرِيقِنا الطَّوِيلةِ هذه، وقد كَتَب القَدَرُ على جِباهِنا أَوامِرَه لِتَيسِيرِ أُمُورِنا، فأَينَما حَلَلْنا ضُيُوفًا نُستَقبَلُ بالتَّرحابِ الأَخَوِيِّ.. نُسَلِّمُهم ما عِندَنا ونَتَسلَّمُ مِن أَموالِهم.. هكذا تَجرِي التِّجارةُ في مَحَبّةٍ ووِئامٍ.. يُغَذُّونَنا، ثمَّ يُحَمِّلُونَنا بالهَدايا، ويُشَيِّعُونَنا.. هكذا سِرْنا في الطَّرِيقِ، حتَّى بَلَغْنا بابَ الدُّنيا، نَسمَعُ مِنها الأَصواتَ.
وها قد أَتَيناها، ودَخَلْناها، وَطِئَت أَقدامُنا عالَمَ الشَّهادةِ، مَعرِضِ الرَّحْمَنِ، مَشهَرِ مَصنُوعاتِه، ومَوضِعِ صَخَبِ الإنسانِ وضَجِيجِه.. دَخَلْناها ونحنُ جاهِلُون بكلِّ ما حَوْلَنا، دَليلُنا وإِمامُنا مَشِيئةُ الرَّحمَنِ، ووَكِيلُها عُيُونُنا اللَّطِيفةُ.
ها قد فُتِحَت عُيُونُنا، أَجَلْناها في أَقطارِ الدُّنيا.. أَتَذكُرُ مَجِيئَنا السّابِقَ إلى هَهُنا؟ كُنّا أَيتامًا غُرَباءَ، بينَ أَعداءٍ لا يُعَدُّون مِن دُونِ حامٍ ولا مَولًى.
أمّا الآنَ، فنُورُ الإيمانِ «نُقطةُ استِنادٍ» لنا، ذلك الرُّكنُ الشَّدِيدُ تُجاهَ الأَعداءِ.
حَقًّا، إنَّ الإيمانَ باللهِ نُورُ حَياتِنا، ضِياءُ رُوحِنا، رُوحُ أَرواحِنا، فقُلُوبُنا مُطمَئِنّةٌ باللهِ لا تَعبَأُ بالأَعداءِ، بل لا تَعُدُّهم أَعداءً.
في الطَّرِيقُ الأُولَى، دَخَلْنا الوِجْدانَ، سَمِعْنا أُلُوفَ الصَّيْحاتِ والِاستِغاثاتِ، ففَزِعْنا مِنَ البَلاءِ، إذِ الآمالُ والرَّغَباتُ والمَشاعِرُ والِاستِعداداتُ لا تَرضَى بغَيرِ الأَبدِ، ونحنُ نَجهَلُ سَبِيلَ إشباعِها، فكان الجَهلُ مِنّا، والصُّراخُ مِنها.
أمّا الآنَ، فلِلَّهِ الحَمْدُ والمِنّةُ، فقد وَجَدْنا «نُقطةَ استِمدادٍ» تَبعَثُ الحَياةَ في الآمالِ والِاستِعداداتِ، وتَسُوقُها إلى طَرِيقِ أَبَدِ الآبادِ؛ فيَتَشرَّبُ الِاستِعدادُ مِنها والآمالُ ماءَ الحَياةِ، وكلٌّ يَسعَى لِكَمالِه.
فتلك النُّقطةُ المُشَوِّقةُ «نُقطةُ الِاستِمدادِ»، هي القُطْبُ الثّاني مِنَ الإيمانِ، وهُو الإيمانُ بالحَشْرِ؛ والسَّعادةُ الخالِدةُ هي دُرّةُ ذلك الصَّدَفِ.
إنَّ بُرهانَ الإيمانِ هو القُرآنُ والوِجْدانُ، ذلك السِّرُّ الإنسانِيُّ.
ﭐرْفَعْ رَأْسَك يا أَخِي، وأَلقِ نَظْرةً في الكائِناتِ، وحاوِرْها، أَما كانَت مُوحِشةً في طَرِيقِنا الأُولَى والآنَ تَبتَسِمُ وتَنشُرُ البِشْرَ والسُّرُورَ؟ ألا تَرَى قد أَصبَحَت عُيُونُنا كالنَّحلةِ تَطِيرُ إلى كلِّ جِهةٍ في بُستانِ الكَونِ هذا، وقد تَفَتَّحَت فيه الأَزهارُ في كلِّ مَكانٍ، وتَمنَحُ الرَّحِيقَ الطَّهُورَ.. ففي كلِّ ناحِيةٍ أُنسٌ وسُلوانٌ، وفي كلِّ زاوِيةٍ مَحَبّةٌ ووِئامٌ.. فهي تَرتَشِفُ تلك الهَدايا الطَّيِّبةَ، وتُقَطِّـرُ شَهْدَ الشَّهادةِ، عَسَلًا على عَسَلٍ.
وكُلَّما وَقَعَت أَنظارُنا على حَرَكاتِ النُّجُومِ والشُّمُوسِ، تُسَلِّمُها إلى يَدِ حِكْمةِ الخالِقِ، فتَستَلْهِمُ العِبْرةَ وجَلْوةَ الرَّحمةِ؛ حتَّى كأنَّ الشَّمسَ تَتَكلَّمُ معَنا قائِلةً:
«يا إِخوَتي، لا تَستَوحِشُوا مِنِّي ولا تَضْجَرُوا! فأَهْلًا وسَهَلًا بكُم، فقد حَلَلْتُم أَهْلًا ونَزَلْتُم سَهْلًا.. أَنتُم أَصحابُ المَنزِلِ، وأنا المَأْمُورُ المُكَلَّفُ بالإضاءةِ لكم.. أنا مِثلُكُم خادِمٌ مُطِيعٌ سَخَرَّني الأَحَدُ الصَّمَدُ للإضاءةِ لكم، بمَحْضِ رَحمَتِه وفَضْلِه.. فعَلَيَّ الإضاءةُ والحَرارةُ وعلَيكُمُ الدُّعاءُ والصَّلاةُ.
فيا هذا! هَلّا نَظَرتَ إلى القَمَرِ.. إلى النُّجُومِ.. إلى البِحارِ.. كلٌّ يُرَحِّبُ بلِسانِه الخاصِّ ويقُولُ: حَيّاكُم وبَيّاكُم. فأَهْلًا وسَهْلًا بكم!
فانظُرْ يا أَخِي بمِنظارِ التَّعاوُنِ، واستَمِعْ بصِماخِ النِّظامِ، كلٌّ مِنها يقُولُ: «نحنُ أيضًا خُدّامٌ مُسَخَّرُون. نحنُ مَرايا رَحمةِ الرَّحمَنِ. لا نَسْأَمُ مِنَ العَمَلِ أَبدًا. لا تَتَضايَقُوا مِنّا».
فلا تُخِيفَنَّكُم نَعَراتُ الزَّلازِلِ وصَيْحاتُ الحَوادِثِ، فهي تَرَنُّماتُ الأَذكارِ ونَغَماتُ التَّسبِيحاتِ، وتَهالِيلُ التَّضَرُّعاتِ.. نعم، إنَّ الَّذي أَرسَلَكُم إلى هنا، هو ذلك الجَلِيلُ الجَمِيلُ الَّذي بِيَدِه زِمامُ كلِّ أُولَئِك.. إنَّ عَينَ الإيمانِ تَقرَأُ في وُجُوهِها آياتِ الرَّحمةِ.
أيُّها المُؤمِنُ يا ذا القَلبِ اليَقِظِ، نَدَعُ عُيُونَنا لِتَخلُدَ إلى شَيءٍ مِنَ الرّاحةِ، ونُسَلِّمُ آذانَنا للإيمانِ بَدَلًا مِنها. ولْنَستَمِعْ مِنَ الدُّنيا إلى نَغَماتٍ لَذِيذةٍ.. فالأَصواتُ الَّتي كانَت تَتَعالَى في طَرِيقِنا السّابِقةِ ــ وظَنَنّاها أَصواتَ مَآتِمَ عامّةٍ ونَعَياتِ المَوتِ ــ هي أَصواتُ أَذكارٍ في هذه الطِّرِيقِ، وتَسابِيحُ وحَمْدٌ وشُكْرٌ.
فتَرَنُّماتُ الرِّياحِ ورَعَداتُ الرُّعُودِ ونَغَماتُ الأَمواجِ، تَسبِيحاتٌ سامِيةٌ جَلِيلةٌ؛ وهَزَجاتُ الأَمطارِ وسَجَعاتُ الأَطْيارِ، تَهالِيلُ رَحْمةٍ وعِنايةٍ..
كلُّها مَجازاتٌ تُومِئُ إلى حَقِيقةٍ.
نعم، إنَّ صَوْتَ الأَشياءِ، صَدَى وُجُودِها، يقُولُ: أنا مَوجُودٌ.
وهكذا تَنطِقُ الكائِناتُ كُلُّها مَعًا وتقُولُ: أيُّها الإنسانُ الغافِلُ، لا تَحْسَبَنّا جامِداتٍ؛ فالطُّيُورُ تَنطِقُ في تَذَوُّقِ نِعمةٍ، أو نُزُولِ رَحْمةٍ، فتُزَقْزِقُ بأَصواتٍ عَذْبةٍ، بأَفواهٍ دَقِيقةٍ تَرْحابًا بنُزُولِ الرَّحْمةِ المُهداةِ.. حَقًّا، النِّعمةُ تَنزِلُ علَيها، والشُّكرُ يُدِيمُها، وهي تقُولُ رَمْزًا: أَيَّتُها الكائِناتُ، يا إِخوَتي، ما أَطيَبَ حالَنا! ألا نُرَبَّى بالشَّفَقةِ والرَّأْفةِ.. نحنُ راضُون عمَّا نحنُ علَيه مِن أَحوالٍ.. وهكذا تَبُثُّ أَناشِيدَها بمَناقِيرِها الدَّقِيقةِ، حتَّى تُحَوِّلَ الكائِناتِ كُلَّها إلى مُوسِيقَى رَفيعةٍ.
إنَّ نُورَ الإيمانِ هو الَّذي يَسمَعُ أَصداءَ الأَذكارِ وأَنغامَ التَّسابِيحِ، حيثُ لا مُصادَفةَ ولا اتِّفاقيّةَ عَشْواءَ.
أيُّها الصَّدِيقُ، ها نحنُ نُغادِرُ هذا العالَمَ المِثاليَّ و نَنزِلُ مِن مَتْنِ الخَيالِ، ونَقِفُ على عَتَبةِ العَقلِ ونَدخُلُ مَيدانَه، لِنَزِنَ الأُمُورَ بمِيزانِه كي نُمَيِّزَ الطُّرُقَ المُختَلِفةَ.
فطَرِيقُنا الأُولَى: طَرِيقُ المَغضُوبِ علَيهِم والضّالِّينَ.. تُورِثُ الوِجْدانَ حِسًّا أَلِيمًا وعَذابًا شَدِيدًا حتَّى في أَعمَقِ أَعماقِه، فتَطْفَحُ تلك المَشاعِرُ المُؤلِمةُ إلى الوُجُوهِ، فنُخادِعُ أَنفُسَنا مُضطَرِّين للنَّجاةِ مِن تلك الحالةِ، ونُحاوِلُ التَّسكِينَ والتَّنوِيمَ وإبطالَ الشُّعُورِ وإلغاءَه.. وإلّا فلا نُطِيقُ تِجاهَ استِغاثاتٍ وصَيْحاتٍ لا تَنقَطِعُ! فالهُدَى شِفاءٌ وأمّا الهَوَى فيُبطِلُ الحِسَّ ويُخَدِّرُ الشُّعُورَ، والشَّهَواتُ السّاحِرةُ تَطلُبُ اللَّهْوَ، كي تَخدَعَ الوِجْدانَ وتَستَغفِلَه وتُنَوِّمَ الرُّوحَ وتُسَكِّنَها لِئَلّا تَشعُرَ بالأَلَمِ، لأنَّ ذلك الشُّعُورَ يُحرِقُ الوِجْدانَ حتَّى لا يَكادَ يُطاقُ صُراخُه مِن شِدّةِ الأَلَمِ.. ألا إنَّ أَلَمَ اليَأْسِ لا يُطاقُ حَقًّا!
إذ كُلَّما ابتَعَدَ الوِجْدانُ عنِ الصِّراطِ المُستَقِيمِ اشتَدَّت علَيه تلك الحالةُ، حتَّى إنَّ كلَّ لَذّةٍ تَترُكُ أَثَرًا مِنَ الأَلَمِ، ولا تُجدِي بَهْرَجةُ المَدَنيّةِ المَمزُوجةِ بالشَّهَواتِ والهَوَى واللَّهْوِ.. إنَّها مَرْهَمٌ فاسِدٌ وسُمٌّ مُنَوِّمٌ للضِّيقِ الَّذي يُوَلِّدُه الضَّلالُ.
فيا صَدِيقي العَزِيزَ، لقد شَعَرْنا بالرّاحةِ مِن حالَتِنا في الطَّرِيقِ الثّانيةِ المُنَوَّرةِ، فتلك هي مَنبَعُ اللَّذّاتِ وحَياةُ الحَياةِ، بل تَنقَلِبُ فيها الآلامُ إلى لَذائِذَ.. هكذا عَرَفْناها، فهي تَبعَثُ الِاطمِئْنانَ إلى الرُّوحِ ــ حَسَبَ قُوّةِ الإيمانِ ــ والجَسَدُ مُتَلذِّذٌ بلَذّةِ الرُّوحِ، والرُّوحُ تَتَنعَّمُ بنِعَمِ الوِجْدانِ.
إنَّ في الوِجْدانِ سَعادةً عاجِلةً مُندَرِجةً فيه، إنَّها فِردَوسٌ مَعنَوِيٌّ مُندَمِجٌ في سُوَيداءِ القَلبِ؛ والتَّفَكُّرُ يُقَطِّرُها ويُذِيقُها الإنسانَ.. أمّا الشُّعُورُ فهو الَّذي يُظهِرُها.
ونَعلَمُ الآنَ: أنَّه بمِقدارِ تَيَقُّظِ القَلبِ، وحَرَكةِ الوِجْدانِ، وشُعُورِ الرُّوحِ، تَزدادُ اللَّذّةُ والمُتعةُ، وتَنقَلِبُ نارُ «الحَياةِ» نُورًا وشِتاؤُها صَيْفًا.
وهكذا تَنفَتِحُ أَبوابُ الجِنانِ على مِصْراعَيْها في الوِجْدانِ، وتَغدُو الدُّنيا جَنّةً واسِعةً تَجُولُ فيها أَرواحُنا، بل تَعلُو عُلُوَّ الصُّقُورِ، بجَناحَيِ الصَّلاةِ والدُّعاءِ.
وأَستَوْدِعُكُمُ اللهَ يا صَدِيقِي الحَمِيمَ. ولْنَدْعُ مَعًا كلٌّ لِأَخِيه.. نَفتَرِقُ الآنَ وإلى لِقاءٍ.
اللَّهُمَّ اهْدِنا الصِّراطَ المُستَقِيمَ.
1710 مرة